جذور الكتابة العربية الحديثة: من المسند الى الجزم
(نشرت باللغة الانكليزية بجزئين في المجلة الفصلية الصادرة في نيويورك، صوت داهش، الاعداد 50 و51، 2009)
سعد الدين ابو الحَب
كلية بَروك. جامعة مدينة نيويورك
مقدمة
دراسة اصول الكتابة العربية مشروع بحثي مهم وممتع، فهو ليس موضوع تأريخي فقط. اذ ان دراسة تطورالكتابة العربية الى اشكالها الراهنة هي خطوة هامة لتأمين مستقبلها. فمعرفة آلية ومدى تفاعل الكتابة العربية تأريخيا بمحيطها يمكن ان يكون عاملا ملهما لفهم واستيعاب العوامل والتحديات الحديثة المؤثرة على تطورها اليوم.
اختلف علماء العالم الاسلامي الاوائل لقرون عديدة على منشأ الكتابة العربية، الا ان اختلافاتهم هذه كانت اساسا حول هوية القبائل العربية التي استخدمتها اولا. ولم يصبح موضوع تأريخ الكتابة العربية موضوعاً للنقاش المحتدم الا بعد ان اشارت النقوش المكتشفة حديثا الى صلة آرامية نبطية. ولكن ورغم كثرة المقالات والكتب في هذا الموضوع اليوم، الا ان العديد منها اكتفت، بدون دراسة او تحليل، بتكرار استنتاجات المستشرقين الاوربيين في القرن التاسع عشر المبنية على قلة قليلة من النقوش الحجرية من ان الكتابة العربية كانت قد تطورت من الآرامية النبطية. البعض القليل، كمحمد علي مادون، رفضوا هذه الاستنتاجات. اذ يعتقد مادون ان الكتابة العربية الحديثة تطورت من كتابة المسند العربية القديمة، عوضا عن ذلك، مقدما تحليلات جادة وممتعة مدعمة بتفاصيل مصورة لآلية هذا التطور. 18 الا ان العديد من الكتب والمقالات اليوم، والتي تشاطره الرأي، لم تقدم اي دراسة علمية او تحليلات بديلة لدعم افترضاتها.
في هذه المقالة، سنقدم دراسة مختصرة مدعمة بالنقوش والمدونات المتوفرة لدينا اليوم عن دلائل تطور الكتابة العربية في بيئة ابجدية المسند العربية. سوف لن نستعرض جميع النقوش بالتفصيل، فذلك غير ممكن عبر دراسة مختصرة. الا اننا وفي نفس الوقت سوف لن نقدم النظريات السائدة اليوم كحقيقة مسلم بها دون تحليل ودراسة وافية. بالاضافة الى مناقشة وجيزة للنقوش المتوفره اليوم، سنتناول كذلك دراسة العوامل الهامة التي احاطت بولادة اشكال الحروف العربية الاولى. اذ ان التنبؤ باصول هذه الاشكال عبر دراسة عدد قليل من النقوش لايمكن ان يشكل لوحده منهجية كافية لاستخلاص استنتاجات نهائية. انما ينبغي دراسة اصول الكتابة العربية ضمن سياق الحقائق الدينية والاجتماعية والجغرافية السائدة حينذاك في منطقة الشرق الاوسط القديم.
الابجديات الاولى في الشرق الاوسط
لقد تم العثور على اولى الاشكال الحرفية لابجديةٍ ما في الجزيرة العربية، بما فيها الهلال الخصيب، في منطقة شرق البحر الابيض المتوسط الواقعة بين بلاد مابين النهرين (العراق حديثا) ومصر. وتم ارجاع تأريخ هذه الاشكال الحرفية والتي اطلق عليها المختصون تسمية الابجديه الكنعانية الى القرن الرابع عشر قبل الميلاد. ويعتقد انها مشتقة من حروف سينائية ذات منشأ مصري. وقد اجمع غالبية المختصين على ان الابجدية الكنعانية هي السلف الرئيسي لمعظم ابجديات العالم القديم. 36
وفي وقت لاحق كشف العلماء ايضا عن دلائل لوجود ابجدية هامة اخرى استخدمها الكنعانيون في هذه المنطقة الجغرافية وخلال مرحلة تأريخية مقاربة، الا وهي الابجدية الاوغاريتية لمدينة أوغاريت التأريخية الواقعة قرب راس شمرة شمال سوريا. وقد استخدمت الاوغاريتية نمطين للابجدية: ابجدية طويلة مكونة من 30 حرفا وابجدية قصيرة من 22 حرفا. اما اشكال الحروف الاوغاريتية فجميعها اشكال مسمارية تكتب من اليسار الى اليمين غالبا. وليس واضحا بعد ما اذا كانت الابجدية الاوغاريتية تكيّفٌ شكلي خاص للابجدية الكنعانية ام ابجدية سابقة لها مرتبطة بالخط المسماري لبلاد ما بين النهرين. 36
لا يمكننا عبردراسة النقوش ان نحدد بالضرورة وبيقين مطلق ودقة كاملة تأريخ نشوء الابجديات القديمة. اذ لا يمكن الاستنتاج عبر نقوش قليلة ومحدودة تأريخ بدأ ابجديةٍ ما. بيد انه من الممكن الافتراض بشكل مقبول استنادا الى النقوش المتوفرة اليوم من انه وفي حوالي القرن التاسع وأوائل القرن العاشر قبل الميلاد كانت هناك، في الجزيرة العربية، ابجديتان متطورتان ذات اشكال حرفية ومظهرية مشتركة عموما.
الاولى هي الابجدية الفينيقية المستخدمة تأريخيا في منطقة شواطئ شرق البحر المتوسط. ويعتقد العلماء انها مشتقة مباشرة من الكتابة الكنعانية او انها كنعانية متطورة. اما الثانية فهي ابجدية المسند العربية القديمة المستخدمة في انحاء شبه الجزيرة العربية وخاصة اليمن. ويعتقد معظم الخبراء انها شقيقة متطورة للكتابة الكنعانية، وليس الفينيقية. كما كشفت نقوش اخرى تعود لقرن لاحق عن استخدامات لابجدية اخرى في عموم مناطق الهلال الخصيب وحتى بلاد فارس، وهي الآرامية. والآرامية مشتقة من الفينيقية، على الاغلب. 36
جدول بالاشكال الحرفية لبضعة ابجديات قديمة. من العلى للاسفل: العربية الاولى، عربية المسند، الفينيقية، الآرامية، والاغريقية |
جدير بالاشارة هنا الى اعتقاد بعض الخبراء أن الكتابة الفينيقية مستمدة من المسند. المؤرخ الالماني ماكس مولر (1823-1900) يعتقد انها مشتقة من المسند خلال القرن التاسع قبل الميلاد عندما سيطرت مملكة المعينيين في اليمن على شواطئ شرق البحر الابيض المتوسط. الباحث السوري المعروف من القرن التاسع عشر، شكيب أرسلان، يشاطره هذا الرأي. 18 ونظرا لتشابه اشكال بعض الحروف اليونانية مع حروف المسند، يعتقد بعض الخبراء ان الكتابة اليونانية مشتقة ايضا من المسند! فمن المعروف ان اليونان القديمة كان لهاعلاقات تجارية واسعة مع اليمن تعود الى القرن التاسع قبل الميلاد. علاوة على ذلك ، وخلافا للفينيقية التي كتبت حصرا من اليمين الى اليسار، كانت ابجدية المسند متعددة الاتجاه. اذ ربما يفسر ذلك كتابة الحروف اليونانية من اليسار لليمين أو ظاهرة الكتابة اليونانية القديمة، ثنائية الاتجاه، المعروفة باسم بستروفيدم.
ومن نافلة القول ان هناك قلة ممن يعتقد ان ابجدية المسند مشتقة من الفينيقية خلال فترة السيطرة المعينية ذاتها. الا ان ترتيب الحروف الفينيقية المنحصر على اليمين لليسار يجعل هذا أقل احتمالا. ومع ذلك ، وبغض النظر عن تأريخ بدء الابجديتين واصولهما، فان الحقيقة الاثرية التي لا متنازع عليها ان للمسند والفينيقية جذور واشكال مشتركة. وهما ينتميان حسب النقوش المكتشفة حتى الان الى فترة زمنية واحدة وذلك حوالي القرنين التاسع والعاشر قبل الميلاد.
ظهور الانماط الابجدية ذات الحروف الموصولة
اظهرت نقوش الشرق الادنى ان الابجدية الارامية ومشتقاتها، وذلك في حوالي القرن الثالث الى القرن الرابع قبل الميلاد، كانت قد حلت محل الفينيقية، بل وأصبحت كتابة رئيسية في عموم منطقة الهلال الخصيب. وبينت النقوش ايضا استخدام ابجدية ذات حروف شبه متصلة، تشارك الارامية عدد حروفها، 22 حرفا، وغالبية اشكالها، على نطاق واسع في العديد من المراكزالسكانية للمناطق الجنوبية من سوريا الكبرى. تلك هي ابجدية مدينة البتراء، عاصمة المملكة النبطية، و التي يعود تأريخها الى حوالى القرن الثالث قبل الميلاد. وغالبية الأنباط هم قبائل عربية في اصولها الاثنية قطنت المنطقة المسيطرة على الطرق التجارية بين شواطئ شرق البحر الابيض المتوسط شمالا والحجاز واليمن جنوبا. اذ وعلى مايبدو ان الانباط استخدموا ابجدية آرامية معدلة قليلا بعد قرون من العلاقات الاقتصادية مع المراكز الحضارية الآرامية المجاورة. 8
نقش بالكتابة النبطية على احد جدران مدينة البتراء 32 |
نقش سرياني على الموزاييك يعود للقرن الثالث الميلادي اكتشفه سيكل في مدينة أورفة التركية 30
|
اقدم نقش سرياني مكتشف ويعود للعام 6 ميلادي 12 |
يعتقد غالبية العلماء ان الكتابة النبطية استمدت من الكتابة السريانية حوالى القرن الثالث قبل الميلاد، ولكن ليست هناك ادلة مادية تدعم ذلك الاعتقاد. فبينما يمكن اليوم تصوير نقوش نبطية تعود للقرن الثاني قبل الميلاد على جدران مدينة البتراء، يرجع تاريخ اولى نقوش الكتابة السريانية الى القرن الميلادي الاول. غالبية اشكال الحروف السريانية، كالنبطية، مستمده بوضوح من الاشكال الارامية، وكذلك عدد حروفها. ويبدو انها استخدمت لأول مرة في اوديسا الاغريقية، المعروفة اليوم في جنوب تركيا باسم مدينة أورفة. 12 & 30
بحلول القرنين الميلاديين الثالث والرابع، اصبحت ظاهرة وصل الحروف ضمن الكلمات ظاهرة واسعة الانتشار في مناطق الجزيرة العربية وبلاد فارس. وكانت ممارسة وصل الحروف على الارجح نتيجة مباشرة لادخال وسائط وادوات نقشية جديدة. دشنت عملية وصل الحروف هذه بدون شك حقبة تأريخية جديدة في تطورالكتابة حيث انها احدثت تحولات جذرية موازية نوعيا للتحولات التي احدثتها عملية فصل الحروف في عصر الطباعة الحديثة. فقد استدعت عملية وصل الحروف ادخال تغييرات جوهرية لاشكالها المنفردة. حيث تم عكسها افقيا اوعموديا، تدويرها باتجاه عقرب الساعة او عكسه، تمديدها، بل وحتى استبدالها كليا، لمجاراة هذا النظام الكتابى الجديد. وغيرت الكلمات الناتجة من هذا الاتصال الخصائص المظهرية الثابتة نسبيا للحروف المنفردة. وتحولت الابجديات ثنائية الاتجاه تقليديا، كالمسند، الى ابجديات احادية الاتجاه، تحت تأثير اشكالها المتصلة الجديدة.27
وقد تفاعلت الابجديات السائدة في ذلك الوقت مع هذه البيئة الكتابية او الخطية الجديدة باشكال متباينة. بعضها، كالنبطية، تبنت وصل الحروف لكنها ابقت على معظم اشكالها الآرامية دون تغيير. البعض الآخر، كالمسند في اليمن وربما البهلوية في بلاد فارس، غيرت اشكال حروفها كثيرا لتحقيق اتصالها. بينما تجاهلت انظمة اخرى، مثل العبرية، هذا النمط الكتابي الجديد كليا. 2 لقد كانت ديناميكية تطور الكتابة في تلك الفترة حالة طبيعية لكيفية ظهور الجديد من القديم. بل كانت حالة نموذجية لجدليةتفاعل الجديد مع القديم.
اذ ان تطور كتابةٍ ما ليست عملية منتظمة ذات نتائج دقيقة ومحددة. لذا وبسبب الغموض الناجم عن عملية معقدة كهذه، يجب ان توظف البحوث والدراسات العلمية في مجال نشوء الكتابة عناصر التحقيق والاحتمالية. فالكتابة نادرا ما تتطور في بيئة معزولةاو عبر اصدار المراسيم. إنها تتطور، بدلا من ذلك، عبر التأقلم مع المحيط الاجتماعي والاقتصادي والتعامل مع الانظمة الكتابية المجاورة. ففي ظروف عادية، لا يتخلى شعب ما عن استخدام اشكاله الكتابية فجأة ولصالح اشكال اخرى.
قبل التحقيق في احتمالية اشتقاق ابجدية ما من اخرى، ينبغي اولا تحديد ما هو المقصود بالابجدية المشتقة. ان تحديد هوية الابجدية المشتقة يجب ان يأخذ في نظر الاعتبارعدد حروفها المستخدمة، ديناميكية استخدامها، وخصائصها المظهرية. فمقارنة بضعة اشكال حرفية من ابجديتين، لوحده، ليس كافيا للاستنتاج من ان ابجدية ما مشقة من الاخرى. كذلك يجب دراسة تطور ابجدية ما ضمن بيئتها الجغرافية والاجتماعية. اذ يمكن انبثاق ابجدية جديدة من ابجدية أم واحده او ابجديات متعددة. بل ويمكن انبثاق ابجدية جديدة اصيلة.
الجزيرة العربية قبل الاسلام
في القرون الاولى للالفية الاولى، كان في المنطقة الشمالية من الجزيرة العربية خليط من الأديان القديمة والجديدة. كانت بابل، المركز الثقافي الاول في المنطقة ولقرون طويلة، تحت سيطرة الفرس الساسانيون، بينما كانت منطقة شرق المتوسط تحت سيطرة الرومان. وعلى النقيض من ذلك، كانت غالبية مناطق وسط وجنوب الجزيرة العربية تتمتع ببيئة دينية وثنية أكثر تجانسا، بالاضافة الى تحررها من الهيمنة الخارجية المباشرة. وبالرغم من تواجد العبرانيين والمسيحيين والمندائيين في المراكز الحضريه الشمالية، فان غالبية سكان الجزيرة العربية، بما في ذلك الهلال الخصيب، كانوا من الوثنيين. اذ انهم، كشعوب بلاد فارس، لم يعتنقوا بكثافة أديان التوحيد حتى ظهور وانتشار الاسلام.
لم تكن القبائل العربية في وسط و جنوب الجزيرة معزولة كليا عن الاضطراب الديني والمذهبي الى الشمال منها. اذ تمتعت هذه القبائل تقليديا بروابط قوية مع القبائل العربية في الشمال بغض النظر عن مكان استقرارها وذلك بسبب ترحالها في منطقة واسعة امتدت الى أعالي دجلة والفرات. وفي اثناء تنقلها هذا، لم تقم هذه القبائل بتوثيق اواصر العلاقة بين حضارات المنطقة فحسب، وانما قامت بخلق مراكز حضرية جديدة خاصة بها ايضا. فقد استقر العرب في مناطق عديدة من الهلال الخصيب ولقرون طويلة قبل الميلاد، ناقلين معهم شمالا آلهتهم، لغتهم، واشكال حروفهم. واستمرت هجرتهم شمالا لقرون عديدة، حتى فيما بعد ظهور الاسلام. اذ لم تكن الجيوش العربية الاسلامية المتقدمة شمالا نحو المراكز السكانية الاساسية في العراق والشام خلال القرن السابع الميلادي، في بيئة حضارية لغوية غريبة. فالعديد من قبائل شعوب الهلال الخصيب رحبت بالفتح الاسلامي.
كانت الابجدية الآراميه ومشتقاتها المحلية ابان فترة ظهورالاسلام، بدون شك، ابجدية سائدة في معظم مدن الهلال الخصيب. الا انها، وخلافا للكتابات القديمة في المنطقة، كالسومرية والفينيقية، كانت ثانوية ومحدودة التطبيقات. حيث انها كانت في الغالب ذو استخدامات دينية. اما الابجديات اليوميه لقطاع الاعمال والحكومة فقد كانت ابجديات قوى الاحتلال الاجنبية، وتحديدا الاغريقية والساسانية. اذ طورت كل من المجاميع الدينية خلال تلك الفترة الزمنية اشكالا حرفية آرامية خاصة لكتبها الدينية. فقد كان للمندائيين والمانويين والمسيحيين واليهود والزرادشتيين جميعا كتب الدينية بحروف ارامية.
لم تكن منطقة الهلال الخصيب الواقعة تحت السيطرة الاجنبية لاعبا اساسيا على الصعيد العالمي. فقد كان للقوى الخارجية الحاكمة اليد العليا ثقافيا واقتصاديا. بيد ان احدى الفوائد الايجابية الناجمة عن هذه البيئة للاقوام العربية المحلية كانت ان اصبحت كنوز الحضارتين الفارسية والرومانية في متناول ايديها. ينبغي اذا دراسة ظهورالحروف العربية الجديدة، ربما في القرون الميلادية الاولى، في اطار هذه البيئة الحضارية المتنوعة. فالاشكال الكتابية للبهلوية والافستية بمنحنياتها الفنية المتطورة اصبحت الآن في بلاد ما بين النهرين القريبة. 22 اما الكتابة الاغريقية والارامية بمشتقاتها السريانية والنبطية والمندائية فكانت الان شمال الحجاز. فرغم ان ابجدية المسند بفروعها بقيت الابجدية الاساسية للعربية الى الشمال من نجد والحجاز الا انها لم تعد الوحيدة. في هذه البيئة الغنية لابد وان الكتابة العربية الموصولة الناشئة كانت قد تأثرت بأكثر من ابجدية.
ولادة وتطور ابجدية الجزم العربية الاولى
كانت الابجدية العربية الاولى والمعروفة تاريخيا باسم خط الجزم نتاج لبيئتها تماما كما هو حال الابجديات الجديدة اللاحقة او القديمة المُعاد تصميمها ابان العهد الاسلامي، عندما اصبحت الكتابة العربية هي الكتابة السائدة والقوة الملهمة. اذ ان العديد من الابجديات القديمة في المنطقة، كالسريانية والمانوية على سبيل المثال، لم تختفي خلال قرون من سيادة الابجدية العربية. فرغم اضمحلال استخداماتها الطبيعي الا انها بقيت وتأقلمت مع الكتابة العربية. البعض اعيد صياغتها في روح الاشكال العربية الجديدة بنفس الطريقة التي اعيد عبرها صياغة الاشكال العربية في روح الاشكال الحرفية المحيطة بها قديما. لذا لا ينبغي النظر الى اشكال الكتابة الغير العربية في العالم الاسلامي اليوم خارج اطارالكتابة العربية تماما. فليس من الممكن ان تكون الابجديات الآرامية قد تطورت بمعزل عن البيئة العربية السائدة بعد العصر الاسلامي.
اذ وكنتيجة للتفكير باسلوب مغاير لذلك كان أن اعتقد بعض المختصين ان الكتابة العربية الاولى مشتقة من السريانية او احد الانماط القريبة منها، كالمندائية، المانوية، او التدمرية. بيد ان العديد من النقوش في تلك الفترة المبكرة، اثبتت ان السريانية مثلها مثل النبطية والتدمرية، لم تكن موصولة الحروف بشكل واثق. 31 & 30 فنقش زبد المتعدد اللغات المكتشف في مركز السريانية الجغرافي القديم، والمؤرخ عام 512 ميلادي، كان قد اشتمل على كتابة سريانية بحروف معزولة غالبا جنبا الى جنب كتابة يونانية واخرى عربية بحروف افقية كاملة الاتصال. كذلك فأن نقوش السريانية المبكرة لم تظهر اية بوادر للحركات او التنقيط. اما مخطوطات السريانية الاسترنجيلية لانجيل (البشيتا) بحروفها المتصلة كالعربية، والتي يعتقد البعض انها تعود الى القرن الخامس الميلادي، فهي تعود على الارجح الى القرون الاولى للاسلام. مع ذلك، ينبغي معاملة الابجديات السريانية، من منظور تطوري، كابجديات شقيقة للابجدية العربية الحديثة.
نقش زبد ثلاثي اللغات، السريانية (يسار) الاغريقية (يمين) والعربية (اسفل). اكنشف قرب حلب في سوريا ويعود للعام 512 ميلادي. 28 اعيد كتابة العربية في الاسفل للتوضيح |
وتنطبق المحاججة اعلاه ايضا على اعتقاد البعض من ان العربية القديمة مشتقة من واحدة من الابجديات الفارسية عالية التطور المستخدمة في بلاد ما بين النهرين، خلال قرون السيطرة الساسانية. 9 اذ ينبغي عدم الخلط بين تطور الكتابة العربية ونشوءها. ربما ارتبطت القفزة النوعية لجمالية الاشكال الحرفية العربية ابان العهد العباسي بالتأثير الفارسي. وذلك امرا متوقعا لان العراق، بوتقة الانصهار القومي ومركز العباسيين، كان تحت الاحتلال الفارسي المباشر منذ القرن الثالث الميلادي وواصل ارتباطه الثقافي والحضاري الشديدين ببلاد فارس ولقرون طويلة
بعد الاسلام. وربما أثرت الكتابة البهلوية او الافستية على العربية الناشئة. فقد اظهرت نقوشهما للقرون الأولى من الالفيه منحنيات متطورة وتلاحم وايقاع حرفي. 3 ولكن ورغم ميل هاتين الابجديتين لايصال الحروف اكثر من السريانية المبكرة، الا ان ربطهما للحروف كان ربطا مترددا ايضا. بالتأكيد، انهما لم يشاركا الكتابة العربية الاولى علائمها الرئيسية او ديناميكيتها.
نقش كارتيز افيزتا على كباح زرادشت ويعود للقرن الثالث الميلادي 5 |
في القرن العاشر الميلادي، وصف المؤرخ والمكتبي الاسلامي المعروف ابن النديم، وسنتحدث بتفصيل اكبرعن خلفيته لاحقا، عددا من الابجديات والخطوط الفارسية القديمة. لم تكن اشكال الحروف التي عرضها ابن النديم لبعض الابجديات التي استمرت حتى عصره نفس اشكالها الاصلية. اذ ورغم ان معظمها اظهر منحنيات شبيه بمنحنيات البهلوية القديمة لكن اشكال حروفها كانت شبيهة بحروف طراز خط التعليق الفارسي الحديث. مشيرا الى احد هذه الخطوط وقد اسماه فيراموز، والذي يعتقد البعض انه خط مشابه للعربية وسابق لها، قال ابن النديم ان هذا الخط “اشتقه الفرس وكتبوا به. انه تطور معاصر وبنمطين”. جملة ابن النديم تشير وبوضوح كامل الى ان حروف هذا الخط الفارسي مشتقة لاحقا. 22
نقش طاق بستان البهلوي في عهد شابور الثالث اواخر القرن الثالث الميلادي 36 |
على اية حال، فان العديد من النظريات عن اصول الكتابة العربية تشير الى احتمالية تأثير الخطوط الفارسية المبكرة، كالبهلوية والافيستا. اذ يعتقد الكثير ان الحروف العربية كانت قد استعملت للمرة الاولى في منطقة الانبار والحيرة في العراق و كلاهما كان تحت السيطرة الساسانية خلال تلك الفترة. العديد من الكتاب يتحدث عن الخط الكندي في الحيرة الى جانب خط الجزم في الحجاز. 1 حتى ان غالبية النظريات التي استعرضها ابن النديم ادرجت اسماء عربية سبقت الاسلام من هذه المنطقة على انها اسماء المصممين الاوائل للابجدية العربيه القديمة.
ومن الشائع اليوم ان بُشر بن عبد الملك الكندي، ويعتقد انه من المسيحيين العرب، كان اول من جلب خط الجزم الى مكة.16 وبُشرهو شقيق الأكيدر، احد قادة مدينة دومة الجندل التأريخية قرب مدينة سكاكة شمال المملكة العربية السعودية، والواقعة 200 ميلا جنوب غرب الحيرة. دومة الجندل هي اقدم مدينة عربية شمالية حيث يعود تأريخها الى القرن العاشر قبل الميلاد. 36 وقد كانت في ذلك الوقت، بين القرنين السادس والسابع الميلاديين، عاصمة مملكة كندة العربية. وفيما يلى ابيات شعرية قديمة نسبت الى رجل من مكة أو من دومة الجندل يكثر الاشارة لها في المصادر العربية: 18
لا تجحدوا نعماء بُشر عليكمُ فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
أتاكم بخط الجزم حتى حفظتموا من المال ماقد كان شتى مبعثرا
فأجريتم الأقلام عوداً وبدأة وضاهيتمو كتاب كسرى وقيصرا
وأغنيتمو عن مسند الحي حمير وما زبرت من الصحف أقيال حميرا
الجذور الابجدية للجزم: النبطية ام المسند؟
يعتقد معظم المختصين اليوم ان ابجدية الجزم العربية كانت قد تطورت من الكتابة النبطية خلال القرن الرابع الميلادي. بيد ان تحليل اشكال الجزم الحرفية المبكرة بدقة وشمولية يشير الى جذور اخرى. اذ يعتقد المؤلف ان الكتابة العربية، الجزم، كانت قد تطورت بشكل مستقل بين القبائل العربية القاطنة شمال نجد او الحجاز من طراز محلي لكتابة المسند العربية الموصولة، وبشكل خاص المسند الصفوي، قبل القرن الرابع الميلادي بكثير. اذ ان الجزم يشارك المسند عدد حروفه، 28 حرفاً. ويشاركه ايضا تعدد الاشكال الحرفية لبعض الحروف حسب موقعها في الكلمات. حتى ان الجزم كان قد استخدم عدد من اشكال حروف المسند بحذافيرها. من المحتمل ان يكون الجزم قد تأثر بالاشكال الحرفية الآرامية وخاصة النبطية الاكثر استخداما واهمية في الشمال حينذاك. بيد ان طريقة وصل حروف الجزم واشكاله مختلفة تماما.
اذ ان انسيابية حروف الجزم على طول الخط الافقي فريدة. كذلك يستخدم الجزم منحنيات سلسة واشكال حرفية بديلة لاشكاله الحرفية المعزولة. كما ان اسلوبه في ربط الحروف وتناغمها اكثر قربا للمسند المتصل منه الى النبطية، خاصة عبراستخدامه لزوائد تطويل افقية. فبينما اوصلت النبطية حروفها الشاقولية كما هي، حور المسند اشكال حروفه قبل ايصالها. ربما يمكننا تحوير بعض الاشكال النبطية للوصول الى اشكال الجزم، الا ان ذلك ممكنا ايضا مع العديد من اشكال حروف المسند. ومع ذلك، وكما ذكرنا آنفا، ان تقارب الاشكال الحرفية لوحده ليس دليلا قاطعا، لا سيما وان جذور الآراميه، النبطية، والمسند واحدة.
كلمة المسند في اللغة العربية تعني “المُدعم”. اما في مجال الاشكال الحرفية والكتابة فهي تعني العمودي او الشاقولي. وقد كتب المسند، مثله مثل الآرامية والفينيقية، بحروف منفصلة وباشكال موحدة عموما للحرف. ورغم تعدد اتجاهات كتابته الا ان الاتجاه الغالب كان من اليمين الى اليسار. وكما كان الحال بعد قرون من استخدام الابجديات الآرامية ، شهد المسند العديد من الابجديات المشتقة. كان ابرزها اللحياني، الصفوي، والثمودي البدوي. انه لخطأ شائع اليوم اعتبار المسند ابجدية ذات نمط واحد، السبأية، محدودة جغرافيا بجنوب الجزيرة العربية. فاهمية واستخدام المسند في شمال الجزيرة كانت كما هي في جنوبها.
لقد كشفت نقوش المسند للقرن الثالث الميلادي اشكال حرفية موصولة لدرجة عالية مما يبين بوضوح مرونة وتأقلم كتابة المسند. فقد استخدمت هذه الكتابة الموصولة في اليمن، والمعروفة باسم المسند الشعبي، في تدوين الوثائق اليوميه على الالواح الخشبيه الليّنة. اما المسند الرسمى فقد استخدم اساسا للكتابة على القطع الصخرية. 27 بوضوح، لم تكن اشكال المسند “محنطة على الحجر” بينما تطورت الابجديات الشقيقة شمالا الى مجموعة متنوعة من الاشكال المشتقة. اذ ليس مستبعدا تطور ابجديات متصلة للمسند في الشمال.
كان اليمن دوما عمق عرب الجزيرة الحضاري ومركزهم التقليدي. فعندما اراد النبي محمد (ص) في عام 615 ميلادي حماية اتباعه من اضطهاد قادة مكة، أمرهم بالتوجه جنوبا نحو اليمن والحبشة. وكما ان اليمن كان (ولا يزال) مرجعية الانساب العربية، كانت ابجدية المسند مرجعيتهم الابجدية ايضا، اينما استقروا. فعرب الجنوب لم يحملوا شمالا لغتهم وآلهتهم فقط وانما حروفهم ايضا. وعلى الارجح، فان استخدام الكتابة بين القبائل العربية قد تناقص شمالا، كلما ابتعدواعن المراكز السكانيه الاصلية، غير ان الحاجة للكتابة لابد وان استعادت اهميتها القصوى بعد ولادة مراكزهم السكانيه الجديدة التي امتدت شمالا حتى اعالي نهر الفرات.
عربي مسند موصول الحروف منقوش على لوح خشبي في اليمن ويعود لبدايات القرن الثالث الميلادي 26 |
لابد ان يكون لكلمة الجزم، ككلمة المسند، معنى مرتبط مباشرة باشكالها الحرفية. وقد جاءت العديد من القصائد الشعرية قبل الاسلام على ذكر الاثنين. ويعني الفعل “جزّ” في اللغة العربية “قُطع من” بما يشير الى ان سبب استخدام كلمة الجزم كان للاشارة الى ان الكتابة الجديدة مقطوعة من كتابة ثانية وذلك عبر تبسيطها واختزال عدد اشكالها الحرفية. وهذا بالضبط ما قام به الجزم عند مقارنته بالمسند.
يحمل الجزم علامات واضحة لكتابة نشأت بشكل مستقل. على الارجح، فان مخترعي الجزم كانوا من عرب الشمال ممن كان لهم معرفة بالنبطية، الابجدية ذات الاهمية البارزة في تلك المنطقة، الا انهم وفي الوقت ذاته، كانوا أكثر معرفة بالمسند. فقد بينت النقوش انهم استخدموا المسند بكثافة خلال الفترة النبطية. ورغم ان بعض القبائل العربية الشمالية كانت قد استخدمت الحروف الآرامية النبطية الا ان معظم هذه القبائل واصلت استخدام المسند. الادلة واضحة جدا: نقشت حروف المسند على آلهة العرب من اليمن وحتى تدمر. بل وعلى النقوش النبطية المتأخرة ونقوش الجزم المبكرة. وفي الواقع، استخدم العرب المسند حتى السنوات الاولى من الاسلام.
كانت عملية تطور ابجدية الجزم عملية مستمرة امتدت على مدى عدة قرون. اذ ان النقوش المبكرة قبل وبعد ظهور الاسلام شملت اشكالا متصلة ومنفصلة لنفس الحروف. فالجزم لم يستقر باشكاله الراهنة حتى ظهور الخط الكوفي. وبالمناسبة، رغم ان هذا الخط سمي بعد مدينة الكوفه في العراق، الا ان نقوش مؤرخة الى 4 هجري (625 ميلادي) اظهرت انه استخدم اولا في المدينة المنورة. اذ ربما اراد المسلمون، كغيرهم من الجماعات الدينية آنذاك، ابتداع خط خاص لكتابهم الديني، القرآن الكريم. اما استقرار ابجدية الجزم بعد ظهور الاسلام فذلك امر طبيعي. فمعظم الابجديات تطورت واستقرت بعد ان تم اعتمادها رسميا من قبل الدول. لقد كان الجزم بوضوح ابجدية تحت التطوير في فترة ما قبل الدولة الاسلامية.
اعمال وبحوث علماء العصر الاسلامي الاوائل
قبل دراسة النقوش المكتشفة حديثا، من المهم استعراض ابحاث ودراسات علماء المسلمين الاوائل فيما يتعلق بالمسند واصول الجزم. اذ رغم ان المسند لم يكن مستخدما بعد العصرالاسلامي، الا ان هؤلاء العلماء عرفوا عنه الكثير قبل الاكتشافات الغربية في القرن التاسع عشر. بدون شك، كان علماء العصر الاسلامي الاوئل على اطلاع على وثائق ونقوش افضل نوعيا من النقوش المتوفرة لدينا اليوم. وعلى ما يبدو، ورغم اختلافهم على اصول العربية كنمط خطي، الا ان غالبيتهم كان قد اعتقد بان خلفية الجزم هو المسند، وذلك كحقيقة مسلم بها.
احد هؤلاء العلماء، هو ابن النديم (929 – 996 ميلادي)، وهو مؤرخ ومكتبي ولد في بغداد أوائل القرن الثاني للخلافة العباسية وتوفى بها. وقد كان لديه اطلاع مباشر على محتويات المكتبات الرئيسية في عهده، بما في ذلك المخطوطات النادرة فى مكتبة قصر الخليفة المأمون. اما والده فقد كان تاجر كتب ناجح. في مقدمة كتابه، الفهرست، وهو فهرس موسوعي ضم الآلاف من الكتب والمؤلفين في عصره، استعرض ابن النديم النظريات المختلفة لأصل الكتابة العربية. هذه النظريات، رغم اختلافاتها في التفاصيل، اتفقت على ما يبدو، ان العربية الحديثة تطورت في مناطق القبائل العربية الشمالية، وخاصة في الحيرة والانبار.
قبل ابداء رأيه الشخصي، كتب ابن النديم ان “الحميريين استخدموا في كتابة المسند، اشكال مختلفة، لحروف الأليف والباء والتاء”. والحميريين هم سكان اليمن القدماء. وبعد الاعلان عن انه كان مسؤولا عن ترجمة مخطوطة قديمة للمسند في مكتبة قصر الخليفة المأمون، قدم ابن النديم رسومه لاشكال حروف المسند موضحا انها كانت “استنساخ حرفي لما إحتوته المخطوطة”.
وبعد عرضه اشكال حروف المسند هذه مباشرة، كتب ابن النديم رأيه الشخصي قائلا ان “اول خط عربي كان خط مكة ، ثم المدينة، ثم البصرة، ثم الكوفة. اذ ان الأليف في خطوط مكة والمدينة كتبت باستدارة اليد نحو اليمين وتطويلها افقيا، وذلك بما جعلها مائلة قليلا”. ثم اعطى مثالا توظيحيا لذلك.
كما عرض عالم اسلامي معروف اخر، الهمذاني، رسوما لاشكال حروف المسند في كتابه “الإكليل” وذلك في عام 950 ميلادي. 18 وقد اكدت رسومه ملاحظات ابن النديم في استخدام المسند لاشكال مختلفة للحرف الواحد. فبالاضافة الى الأليف والباء والتاء، قدم الهمذاني اشكال اضافية للراء، الضاد، الزاء، اللام، الميم، النون، والهاء. وملاحظة الهمذاني بخصوص استخدام المسند لثلاثة اشكال لحرف الهاء كانت ملاحظة هامة كما سنرى لاحقا. ويجدر الاشارة هنا الى ان النقوش المكتشفة حديثا قد اثبتت تطابق غالبية الاشكال الحرفية للمسند مع الاشكال التي قدمها العالمان.
ابجدية المسند العربية كما عرضها الهمذاني كتابه الإكليل الصادر حوالي العام 945 ميلادي. 18 رتبت الحروف وفق تسلسل نجد القديم.26لونت الحروف العربية باللون الاخضر من قبل المؤلف للتوضيح. |
كما اثبتت جميع النقوش العربية التي سبقت الاسلام للقرن الرابع، الخامس، والسادس الميلادي ملاحظة ابن النديم الذكيه عن الأليف المائلة نحو اليمين. حتى ان الاشكال المختلفة للأليف في المسند والتي قدمها الهمذاني ضمت شكلين لأليف مائلة. كذلك فان اكتشاف اول نقشين للخط الكوفي في المدينة المنورة وبتأريخ سابق لتأسيس الكوفة، اثبت ملاحظة ابن النديم الرئيسية من ان الخطوط العربية الاولى ولدت في الحجاز. بالطبع، وبعد الاخذ بنظر الاعتبار طبيعة الترحال البدويه للعرب، يجب ان لا نستبعد امكانية قيام قبائل اخرى في مناطق اخرى من الجزيرة العربية باتقان اشكال الجزم الحجازية الاولى قبل الإسلام.
واعتقدت عدة شخصيات اسلامية مهمة اخرى ان الجزم مشتق من المسند. من بين هؤلاء ابن خلدون والقلقشندي. فقد ذهب كلاهما الى ان الجزم عُرف اولا في اليمن باسم “الخط الحميري” قبل انتقاله الى الحيرة والانبار في العراق ومن ثم الى مكة. 18
النقوش العربية قبل الاسلام
حتى يومنا هذا، تم اكتشاف سبعة نقوش للجزم فقط لفترة ما قبل ظهور الاسلام. وقد عثر على اقدمها قرب جبل الرمّ الى الشرق من العقبة. ويرجع تاريخه الى العام 328 ميلادي. اما النقوش التالية في القدم فهي النقشان المكتشفان في سكاكة، شمال المملكه العربية السعودية. ويعودان الى القرن الرابع او اوائل القرن الخامس الميلاديين. او من المحتمل ان يكون النقش الثاني في القدم هو نقش ام الجمال العربي المكتشف جنوب دمشق، رغم اعتقاد المؤرخين من انه يعود الى القرن الخامس الميلادي.
اما النقوش الثلاثة المتبقية فيرجع تأريخها جميعا الى القرن السادس الميلادي. الاول هو نقش زبد المكتشف في شمال سوريا، ويرجع تاريخه الى العام 512 ميلادي. ويضم نصوص بثلاث ابجديات، اليونانية والسريانية والعربية. اما الثاني فقد اكتشف قرب جبل أسيس جنوب دمشق، ويرجع تاريخه الى العام 528 ميلادي. اما الثالث والاخير، فهو النقش المكتشف في حرّان، جنوب دمشق ايضا، ويرجع تاريخه الى العام 568 ميلادي.
نقش جبل أسيس المكتشف جنوب دمشق والمؤرخ 528 ميلادي.28 لونت رموز السنة بالاخضر من قبل المؤلف للتوضيح. |
نقش حران ثنائي اللغة، عربي واغريقي، المكتشف جنوب دمشق ويعود للعام 568 ميلادي. 28 لونت رموز السنة بالاخضر من قبل المؤلف للتوضيح. |
تجدر الاشارة هنا الى ان تواريخ هذه النقوش تتوقف عموما على كيفية وحيثيات قراءة العلماء لمحتوياتها. لذا فان التواريخ المذكورة اعلاه ليست دقيقة بالضرورة. علما ان نقوش أسيس وحران فقط كانت قد تضمنت تأريخاً محددا في النصوص. وكان ذلك على شاكلة كلمتين منفصلتين لرموز متصلة بعد كلمة “سنت” في كليهما. وقد قرر المختصون قراءة هذه الرموز على انها الرقمين 423 و 463، غير ان ذلك امر قابل للمسائلة والنقاش. اولا، قرر المختصون اعتبار الكلمة الاولى في كلا النقشين الرقم النبطي 400 رغم الاختلاف الظاهر بين شكليهما. ففي نقش حران يمكن قراءة الكلمة الاولى الرقم النبطي 200 او كلمة “نحو” العربية. ثانيا، لا يمكننا الجزم من ان الجزء الاخير من الكلمة الثانية، المتشابه في كلا النقشين، رقما نبطيا. اذ من الممكن ان يكون هذا رمزا لعام او حدث تأريخي، خاصة، كما سنرى لاحقا، بعد تكرار هذا الرمز في نقش نبطي اخر. لحسن الحظ ، فان تأريخ نقش زبد المتعدد اللغات دقيق ومؤكد عبر النص الاغريقي المتضمن فيه.
تجدر الاشارة هنا ايضا الى انه لم تكتشف بعد اية نقوش للجزم، سابقة للاسلام، في مناطق الحيرة والانبار في العراق. فأقرب النقوش جغرافيا لهذه المنطقة كانا نقشي سكاكة، الواقعة حوالى 200 ميلا جنوب غرب الحيرة. ذلك ربما يعنى ان الجزم قدُم الى هذه المنطقة متأخرا، وليست هناك نقوش يمكن العثور عليها في هذه المنطقة. غير ان ذلك أمر مستبعد، فالعديد من المختصين الاوائل اعتقدوا ان الجزم استخدم للمرة الاولى بين القبائل العربية في هذه المنطقة.
اما فيما يخص نقوش الابجدية النبطية، فهي متوفرة بكثرة للفترة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد وحتى قرون عديدة لاحقة. ولكن هناك اربعة نقوش نبطية فقط باللغة العربية، من اصل بضعة آلاف باللغة الآرامية. وقد قُدمت هذه النقوش الاربعة بافراط على انها ادلة لتحوّل الكتابة النبطية الى الجزم. اقدمها، نقش عين أفادات في النقب، وقد احتوى على سطرين فقط بالعربية ويرجع تأريخه الى الاعوام 88 – 150 ميلادية. ويليه في القدم النقش المكتشف في منطقة ام الجمال جنوب دمشق. وهو يعود الى العام 250 ميلادي.
النقش الثالث هو نقش رقّوش المكتشف في مدائن صالح شمال الحجاز. ويرجع تاريخه الى العام 267 ميلادي. وقد احتوى هذا النقش على نص اضافي لملخص بابجدية المسند الثمودي مكتوب عموديا. وتضمن ايضا على حروف منقطة، وهي نادرة في النبطية. ويرى البعض ان نقش رقوش دليل هام على تحول النبطية الى عربية الجزم. اما النقش الرابع فهو نقش حجر النمارة الشهيرالمكتشف جنوب دمشق. ويعتقد المختصين انه شاهد قبر أمرؤ القيس (المتوفي عام 328 ميلادي، بناءا على قراءة النقش)، وهو ملك عربي معروف قبل الاسلام و ينتمي لقبائل كندة.
بدون شك، ان جميع النقوش المذكورة اعلاه هي وسائط هامة لدراسة تطور العربية المبكرة، ولكن الاعتمادا على هذه النقوش وحدها اسلوب ناقص. اولا، ان نقش الحروف على الاحجار الصلبة يمكنه ان يشوه اشكال الحروف الفعلية. ثانيا، عدد الاشكال الحرفية المستقاة من دراسة مجموعة صغيرة من النقوش ليس كافيا للخروج باستنتاجات وافية. ثالثا، ان جميع هذه النقوش تنتمي الى منطقة جغرافيه محدودة بما يجعل اجراء دراسة شاملة امرا في غاية الصعوبة.
دلائل النقوش العربية اوائل العصر الاسلامي
ان اية دراسة متوازنة لجذور الكتابة العربية لابد وان تتناول بحث الاشكال الحرفية للعقود الاسلامية الاولى اذ ان العديد منها كتب على وسائط غير حجرية. من الغريب ان احدا لم يعثر بعد على مدونات ورقية اوجلدية للعربية قبل الاسلام علما ان لدينا اليوم مدونات عربية على ورق البردي من العقد الثاني بعد الاسلام. وكما ذكرنا آنفا أن ابن النديم تحدث في كتابه عن ترجمته لمخطوطة ورقية او جلدية قديمة كتبت بالمسند.
كتب اقدم نقشين بالعربية بعد ظهور الاسلام بالخط الكوفي وهما يعودان الى العام الرابع الهجري (625 ميلادي). وقد تم اكتشاف النقشين في مغارات جبلية في المدينة المنورة.11 وكذلك من العقد الهجري الاول لدينا رسالتين من النبي محمد (ص)، ويقال انهما كتبا بخط الامام علي بن ابي طالب (ع). احدهما للمنذر بن ساوي ملك البحرين والاحساء، والاخرى لهرقل (هراكيولس) امبراطور الروم. وقد شملت هاتان الرسالتان اشكال حرفية قيمة (مثل حرفي العين والهاء) بما يمكننا استخدامها لتسليط الضوء على جذور الاشكال الحرفية العربية الاولى. من المعتقد اليوم ان النبي محمد (ص) كان قد ارسل خمسة الى ثمانية رسائل لقادة المناطق المجاورة.15
وهناك نقوش اسلامية عديدة من العقود الاولى للاسلام. اهمها اول مدونتين ورقيتين بعد الاسلام ويعود تأريخهما للعام 22 هجري (642 ميلادي). احدهما ثنائية اللغة، عربي واغريقي، وهي محفوظة اليوم في المتحف الوطني للنمسا في فيينا. وكلاها متعلق بعقود الشراء والضرائب. وليس غريبا احتواءهما على اشكال حرفية منقطة بما يؤكد حقيقة ان التنقيط كان مستخدما بكثرة قبل العقد الخامس للاسلام حين تم اضافته رسميا للعربية.
احد اقدم نقشين للخط الكوفي. مكتشف في جبل سلع في المدينة المنورة ويعود للعام 4 هجري (625 ميلادي) 28 |
نقش بالخط الكوفي مكتشف في الطائف ويعود الى العقود الاولى للاسلام 20 |
احدى اول مدونتين ورقيتين للعربية ويعودان للعام 22 هجري (642 ميلادي) وهي تحتوي على كتابة اغريقية ايضا ومحفوظة في المتحف الوطني للنمسا في فيينا 28 |
نقش بالخط الكوفي عثر عليه في كربلاء ويعود للعام 60 هجري (683 ميلادي) لاحظ استخدام حرف الواو في “الله اكبر” 28 |
كما ولدينا اليوم العديد من المدونات الورقية المبكرة ومعظمها كتب بالخط الكوفي. احدهما مخطوطة للقرآن الكريم بالخط المائل، وقد اعتبر المؤرخون هذا الخط مثالا لخط نادر استخدم لفترة وجيزة. ويرجع تأريخها حسب اعتقادهم الى القرن الثامن الميلادي.25 بينما يعتقد المؤلف انها اقدم من ذلك، ربما منتصف القرن السابع الميلادي، اي خلال العقود الاولى للاسلام. فأشكال هذه المخطوطة الورقية تكاد تكون مطابقه لاشكال حروف المدونات الورقية الاولى المذكورة اعلاه وكذلك للاشكال الحرفية في احدى اقدم المخطوطات القرآنية المدونة على الجلود الرقيقة والمحفوظة في المكتبة الوطنية المصرية في القاهرة.
من صفحة لاحدى اوائل المخطوطات الجلدية للقرآن الكريم (سورة 10 آية 59) وقد كتبت بالخط الكوفي وبدون تنقيط وهي تعود الى منتصف القرن السابع الميلادي 14 |
من النقوش الاسلامية الهامة الاخرى، نقش الخط الكوفي حوالي جدران الموزائيك الداخلية والخارجية للبناء المثمن لقبة الصخرة في القدس، ويرجع تاريخه الى العام 64 هجري (682 ميلادي). وهو نقش طويل ومحفوظ بشكل جيد. اما اشكاله الحرفية فهي مشابهة لاشكال الخط المائل ايضا، ولكن بدون الميلان. وقد استخدم فيه التنقيط بشكل فريد ومميز. اما النص فهو دعاء اسلامي يشتمل على خليط من نصوص قرآنية وغير قرآنية. وموضوع النص يتضمن دعوة واضحة لسكان القدس المسيحيين للايمان بالمسيح (ع) وفق الاعتقادات الاسلامية. اما كتابة الدعاء في النقوش وتلاوته في المناسبات الدينية فذلك عرف اسلامى شائع. فحتى نقش كربلاء بالخط الكوفي، المؤرخ عام 60 هجري، تضمن دعاءا.
احدى نقوش قبة الصخرة في القدس وتعود للعام 64 هجري (684 ميلادي). النقش الاعلى يعود لجدران المثمن الداخلية والاسفل لجدران المثمن الخارجية. لاحظ طريقة كتابة الكلمة الثالثة، آمنوا، في اعلى الشكل 28 |
نقول ذلك، لان نقش قبة الصخرة كان احد المكونات الرئيسية لإنقلاب اكاديمي حديث في مجال الدراسات العربية والإسلامية اليوم، بقيادة مجموعة من الباحثين الالمان. فقد استغل هؤلاء الباحثون عدم معرفة القارئ الغربي لمفهوم الدعاء الاسلامي ليقدموا نظرية بدون اثباتات من ان القرآن الكريم لم يكن موجودا عند تأريخ هذا النقش، اي خلال العهد الاموي. وبالرغم من توفر ثروة هائلة من المعلومات التأريخية والادلة المادية اليوم، بما يشير الى خلاف ذلك، يدعي هؤلاء ان نصوص هذا النقش ليست الا “مكونات اولية” استخدمت لاحقا بعد العام 650 ميلادي، اي خلال العصر العباسي، في عملية “تأليف” القران كما نعرفه اليوم.
أحدهم، وهو باحث الماني يكتب تحت اسم مستعار هو كريستوف لوكزنبرغ يعتقد ان القرآن كان في الاصل كتاب سرياني لاحد المذاهب المسيحية وقد ترجم للعربية لاحقا وباغلاط عديدة .28 في دراسته للقرآن، يحاول لوكزنبرغ تصيد كلمات عربية غير منقطة قريبة لغويا، وبالصدفة، لكلمات سريانية، عبر استغلال نصوص قرآنية غامضة او معقدة قواعديا ومختلفٌ في تفسيرها، مبتدعا بدوره نصوصا لغوية جديدة غريبة ومتناقضة غالبا. ألا ان المسلمين لم يختلفوا يوما على حقيقة ان العديد من تعاليم وقصص القرآن الكريم مستمدة من الديانتين اليهودية والمسيحية، وإن اللغة العربية تحتوي عموما على عدد كبير من الكلمات المعرّبة. كما ان الآرامية السريانية، والتي تشارك العربية اصولها وتأريخها، هي نفسها متأثرة بشدة بالعربيه قبل وخصوصا بعد العصر الاسلامي في القرن السابع. وبالتالي فهي مرجعية لغوية فقيرة لارجاع اصول الكلمات العربية. على ما يبدو، ان بحوث لوكزمبرغ بحوث دينية متطرفة أكثر منها بحوث اكاديمية.
من أبرز الحقائق التي كشفتها النقوش الاسلامية المبكرة هي الاستخدام الغني والمتنوع للاشكال الحرفية، محدودية الاشكال المتعددة للحرف الواحد، وعدم الاكتراث دائما لوصل الحروف. اذ يمكن االعثور في المدونات والنقوش المختلفة على اشكال حرفية موقعية للمسند او النبطية. يبدو ان العرب، وحتى في العقود الأولى من الاسلام، وظفوا مجموعة كبيرة من الاشكال الحرفية المتنوعة التي تعرضوا لها تأريخيا في المنطقة. ومن بعض الامثلة الواضحة لذلك استخدام الهاء النهائية والوسطية، العين الوسطية، القاف الكوفية، ومركب حرفي الباء والراء. ورغم امكانية الجدل في احتماليات منشأ هذه الاشكال من المسند اوالنبطية، الا ان احدا لا يمكن ان يجادل من ان الجزم كان بمنأي عن تأثيرات ايا منهما.
التأثيرات النبطية على ابجدية الجزم العربية
دراسة النقوش العربية الاولى لا تدع مجالا للشك من ان خط الجزم القديم كان قد تطور شمال الجزيرة العربية قريبا من بيئة آرامية نبطية غالبة. اذ ان النقوش المكتشفة بينت بوضوح توجه عام للاستعارة المؤقتة او الدائمية لاشكال حرفية نبطية. واستعارة الاشكال الحرفية بين ابجديات المنطقة آنذاك كانت ممارسة معهودة. فقد اظهرت النقوش العربية القديمة اشكالا حرفية قريبة من الاشكال النبطية لحروف الدال، العين، الواو، الطاء، والنون. ولكن وكما سبقت الاشارة اليه فان هذه الاشكال قريبة ايضا لمرادفاتها في المسند.
تاريخيا، كانت منطقة القبائل النبطية ملجأ امين للمطلوبين الهاربين في المدن المحيطة بها. جغرافيا، وبعد قراءة التاريخ الروماني، يبدو واضحا ان الاغلبيه الساحقه من الانباط كانواعرقيا قبائلا عربية استخدمت اللغة والكتابة الاراميه المنتشرة في المراكز المجاورة لها. 8 وقد كان تكيفهم مع الثقافة الأجنبية هذا سابقة هامة للقبائل العربية في الشمال وعامل حاسم في خلق بيئة مفتوحة كان لها اهمية كبيرة في تطور الجزم لاحقا.
ليس معروفا متى اندثرت الكتابة النبطية. اما ان يكون تأريخ اقدم نقش للجزم بناءا على النظريات السائدة اليوم هو نفسه تاريخ آخر نقش عربي بالابجدية النبطية، الا وهو العام 328 ميلادي، فهذه مصادفة غير واقعية. اذ انها تترك انطباعا خاطئا من ان النبطية اندثرت بعد تحولها الى كتابة الجزم العربيه. تأريخيا لم تتحول اية كتابة آرامية الى كتابة ثانية مختلفة جذريا عنها في هذه المنطقة الجغرافية قبل العصر الاسلامي، فلماذا تحولت النبطية اذن؟
حكمت المملكة النبطية منذ حوالى 300 سنة قبل الميلاد وحتى احتلالها من قبل الامبراطورية الرومانية عام 106ميلادي. ولكن مدينة البتراء بقيت مدينة هامة في المنطقة حتى القرن السادس الميلادي. 31 فلماذا تخلى شعبها فجأة وبعد بضعة عقود عن اشكاله الكتابية لصالح اشكال مختلفة كثيرا؟ على الاغلب، كان اضمحلال دور الأنباط التدريجي سببا مباشرا لتوسع نفوذ القبائل العربية المجاورة وانتشار ابجديتها، الجزم، في مناطقهم.
وهذا ما يفسر حقيقة ان النقوش العربية بالابجدية النبطية لا تمثل الا جزء يسير من النقوش النبطية. بل قد يفسر ايضا سبب استخدام النقوش النبطية المتأخرة لاشكال حرفية موصولة كليا مقارنة بالنقوش القديمة. اذ ربما استبدلت القبائل العربية في المناطق النبطية السابقة ابجديتها النبطية بابجدية الجزم القادمة حديثا. وهذا لا يستثني بالطبع احتمالية ان يكون الجزم قد اشتق من النبطية وواكبها قبل ان يحل محلها.
على مايبدو، لم يعرف العرب المسلمين الاوائل الكثير عن اصول النبطيين. الا ان بعض احاديث قادة الجيوش الاسلامية المتقدمة شمالا اظهرت انهم خليطا عرقيا من العرب وغير العرب. وقد ذكر كتاب الفهرست لابن النديم انهم لا يتكلمون العربية. واشار في صفحات عديدة الى ان احد الشخصيات النبطية من منطقة قريبة للكوفة واسمه ابن الوحشية الكلداني كان قد قام بترجمة العديد من النصوص النبطية الى العربية. احيانا كان اسمه الكسداني وذلك على مايبدو خطأ نسخي للحرف المركب كاف-لام. ونقلا عن احد سحرتهم، وصف ابن النديم النبطيين في الفهرست على انهم “حفاة ذو بشرة سوداء وكعوب مشققة”. وقد اعتقد العرب القدماء، وفقا للفهرست، ان لغة الانباط كانت لغة بابل القديمة وان الكلدان والآشوريين تكلموا لهجات مشتقة منها.22
معظم الحروف النبطية، عند عزلها، تكاد تكون متطابقة مع الحروف الآرامية او الآرامية العبرية. اما عملية ايصالها ببعض فتبدو عملية ثانوية مضافة. اذ ربما عرف الأنباط وصل الحروف من اقوام مجاورة استخدمت كتابة بحروف موصولة كالمسند. ربما اراد النبطيون تمييز كتابتهم عن الكتابات الارامية المحيطة باضافة او ابتداع ديناميكية خاصة. ومن المثير للاهتمام هنا ملاحظة ان قواعد اتصال الحروف النبطية مماثلة عموما لقواعد العربية.
لقد اكدت نقوش عديدة في الجزيرة العربية ان القبائل العربية الشمالية واصلت استخدام المسند.33 ربما تبنت بعض هذه القبائل القاطنة في مناطق النفوذ النبطية اشكال حرفية آرامية لتسهيل العلاقات التجارية مع المدن المجاورة، لكن، وكما يبدو، انها استخدمت ابجديتي النبطية والمسند معا. وليس مستبعدا ان تكون بعض الاشكال الحرفية النبطية مستمدة مباشرة من اشكال المسند.
ففي القرون الميلادية الاولى، استخدمت مملكة تدمر القريبة من منطقة النبطيين، ومعظم سكانها من العرب، ابجديتين للكتابة، احداهما آرامية بحروف معزولة والآخرى بحروف متصلة، وهي احدى ابجديات بلاد مابين النهرين. على الارجح، كان استخدام تدمر لابجديتين او ربما ثلاثة بسبب موقعها على طريق التجارة بين الامبراطوريتين الساسانية الفارسية والرومانية. اما النقوش على آلهة تدمر فكانت بابجدية المسند. ورغم ان ابجدية تدمر مشتقة عموما من الآرامية، الا ان اشكال حرفي الراء و الثاء كانتا بدون شك استعارة مباشرة من المسند. 31 & 24
مرة اخرى، من المهم جدا الانتباه هنا الى ان نقوش الجزم العربية المتضمنة لاشكال نبطية تعود جميعا الى منطقة محدودة جغرافيا، الا وهي منطقة النفوذ النبطي. كما انها اقتصرت على بضعة نقوش فقط. لذا، لا يمكننا الاستنتاج بيقين مطلق من ان هذهالاشكال هي اشكال الجزم الاصلية ام اشكال محلية متأثرة بالنبطية.
جذور الجزم في ابجدية المسند
رغم الملامح الواضحة للنفوذ النبطي، الا انه وبعد دراسة النقوش العربية لفترة ما قبل الاسلام او لمرحلة العقود الاولى للاسلام، لا يمكن انكار ان الجزم مستمد اساسا من المسند. فحروف الراء، الواو، العين، والهاء في المسند كانت قد استخدمت بدون تحوير في الجزم حتى العقود الاولى للاسلام. وبعد تفحص اشكال حروف المسند بجميع انماطه، بما في ذلك الموصولة، يستطع المرء بسهولة ملاحظة خصائصها المظهرية المشتركة مع اشكال الجزم والخط الكوفي. فحروف الاليف، الشين، العين، الهاء، الجيم، الفاء، القاف، الذال، الزاء، الكاف، والنون يمكن ارجاعها جميعا للمسند.
وما يدعم الفرضية اعلاه هو عمق التغيرات الحاصلة لاشكال حروف المسند على مر القرون. فقد بينت الدلائل التأريخية بشكل عام ان التحويرات الطارئة على الاشكال الحرفية لابجدية ما تتضمن عكسها افقيا اوعموديا وتشذيبها من بعض مكونتاها المظهرية. وقد يعني ذلك في حالة تحول المسند للجزم وضع الاشكال العمودية التقليدية افقيا وتشذيبها عبر الغاء المكونات المظهرية المتعارضة مع سلاسة الكتابة الموصولة او مع امكانية تمييز الحروف عند القراءة.
اقدم نقش عربي للجزم على الصخر اكتشف قرب جبل الرم شرق العقبة ويعود للعام 328 ميلادي. صور الحجر لانكستر هاردنج 7 |
نقش الرم وهو اقدم النقوش العربية المكتشفة، لم يتضمن اشكال حرفية واضحة للدراسة. الا انه نقش هام لكونه تضمن خليطا من حروف الجزم والمسند. المستشرق غرام، يعتقد ان حروف الجزم نقشت قبل حروف المسند بفترة. بينما اعتقد المستشرق الامريكي بلمي خلاف ذلك. ورغم اختلافهما كليا في حيثيات قراءة نص الجزم، الا ان كليهما تجاهل قراءة نص المسند. 7 اما مادون فهو يعتقد ان هذا النقش هو الحلقة المفقودة بين الجزم والمسند. وقد قرأ النصين معا.17 يعتقد المؤلف ان حروف المسند والجزم في هذا النقش كانا قد كتبا في آن واحد وان قيمة هذا النقش تكمن اساسا في تواجد الاشكال البدائية للجزم جنب الى جنب اشكال المسند. اذ وكما رأينا سابقا، ان نقش رقوش النبطي تضمن ايضا كتابة بالمسند لم يختلف احدا من انها منقوشة في وقت واحد. لماذا علينا اذن ان نفصل تأريخ النصين في نقش الرم، خاصة وان طبيعة النصين النوعية متشابهة وان العديد من نقوش المسند المكتشفة في الجزيرة العربية تضمنت كتابات متعددة الاتجاهات في نقش واحد.
اما نقش ام الجمال فربما يكون اكثر نقوش العربية قبل الاسلام اهمية واثارة للنقاش. ورغم اختلاف العلماء على تأريخه الا ان معظمهم يعتقد انه ينتمي الى القرن الخامس او السادس الميلادي. وقد اطلق عليه البعض اسم نقش ام الجمال الثاني لتفريقه عن نقش ام الجمال العربي النبطي الآنف الذكر. يبدو جليا ان هذا النقش كان قد استخدم اشكال متعددة للهاء باوضاعها المعزولة، النهائية، والوسطية بما يتطابق مع اشكال الهاء في المسند والتي نقلها لنا ابن النديم والهمذاني. كما ان شكل حرف الهاء الوسطية في هذا النقش هو نفسه شكلها في رسالتي النبي محمد (ص) المكتوبة بعد حوالى مائة سنة او اكثر. في هاتين الرسالتين ظهرت هاء المسند الوسطية والبدائية في ثمانية كلمات.
نقش ام الجمال (ويسمى احيانا نقش ام الجمال الثاني) وقد اكتشف جنوب دمشق ويعود الى الفترة مابين القرنين الرابع او الخامس الميلاديين.18 لونت الكلمتين “عهد” و “الهنيد” بالاخضر من قبل المؤلف للتوضيح. |
قرأ العديد من المختصين الكلمة الثانية من السطر الأول في نقش ام الجمال ” غفر” والكلمة الاولى من السطر الثالث، “الخليد” او “القليد”. بينما يقرأ المؤلف الكلمة الاولى “عهد” و الثانية “الهنيد”. اذ ان اعتبار الحرف الاخير حرف الراء، ليجعلها غفر، سيتناقض كليا مع قراءة جميع النقوش السابقة واللاحقة. فقد استخدم الجزم شكل حرف الراء في المسند بشكل متواصل حتى العقود الاولى للاسلام. كلمة غفر في العربية تعني “عفى عن”. الا ان مادون يعتقد انها تعني هنا “حفظه” او “حماه من السوء”. ولكن استعمال غفر بهذا المعنى هو استعمال نادر. “عهد” او “ستر” هما الاكثر شيوعا.
نص رسالة النبي محمد (ص) الى هرقل وقد اعيد نسخها من قبل المؤلف للتوضيح من صورة لنسخة اصلية ثانية محفوظة في خزانة هنري فرعون في لبنان او الاردن.18 كلمات “الهدى” و “اشهدو” ملونة بالاخضر للتوضيح. |
كذلك فان أحدى نقشي السكاكة، السابقان لنقش ام الجمال، كان قد استخدم ايضا هاء المسند الوسطية. قرأ المعيقل وغالبية المستشرقين الكلمة الاولى من السطر الاول في النقش “بعسو” مفترضين على مايبدو انها اسم لشخص ما.20 ولكن هذا ليس اسما عربيا معهودا. كما أن الحرف الثالث لا يمت بصلة من قريب او بعيد لحرف السين في الجزم او النبطية. فمن الغريب حقا اعتبار نتوء بسيط على انه سن وسطي لسين عربية، خاصة عند تواجد العديد من النتوءات المشابه في كل كلمة من هذا النقش. يعتقد الكاتب ان هذه الكلمة كانت “بعهو” او “باعهو” وان الحرف الثالث هو حرف الهاء الوسطية في المسند، مرة اخرى. على اقل تقدير، ستتلائم قراءتنا هذه مع قراءة النص الحالية المتعلقة بعبد من عبيد امرؤ القيس.
احد نقشي عربية الجزم المكتشفين في السكاكة شمال المملكة العربية السعودية ويعودان للفترة مابين القرنين الرابع والخامس الميلاديين. الكلمات “بعهو” و “مرالقيس” ملونة بالاخضر للتوضيح.28 |
ومن الدلائل الاخرى التي تشير الى ان الجزم ابجدية مستقلة مشتقة من احد انماط المسند الموصولة هو استخدامها لشكل مشذب من احد اشكال حرف الأليف لنمط المسند الصفوي المستخدم في شمال الجزيرة العربية. وهو شكل مائل لليمين بزاوية مشابهة لزاوية ميلانه في انماط المسند الموصولة. اذ يمكن ملاحظة حرف الأليف المائل هذا في جميع النقوش العربية قبل وبعد الاسلام. حتى ان الهمذاني كان قد عرضه ضمن اشكال حروف المسند. فمن المستبعد جدا ان يتحول حرف الأليف النبطي بشكله الدائري الصغير وبموقعه المرتفع كثيرا فوق خط الكتابة الافقي الى أليف الجزم.
ومما يدعم رأينا هذا مدونة القرآن الورقية بطراز الخط المائل ومدونتي الاعمال والمحاسبة على ورق البردي المذكورة اعلاه. اذ يعتقد المؤلف ان الخط المائل لم يكن نمطا خطيا نادرا جاء بعد الاسلام وانما هو النمط الحجازي القديم للجزم وقد اضمحل استخدامه على الاغلب بعد ظهور الخط الكوفي وخط النسخ. وفي الواقع ان انماط الخط الكوفي الاولى كانت مطابقة تقريبا للخط المائل باشكالها الحرفية. فعند تفحص اشكال الخط المائل يمكننا ملاحظة ليس فقط حرف الأليف المائل وانما حرف الواو الصغير للمسند الصفوي.
ويبقى الدليل الاهم لاثبات علاقة الجزم بالمسند الموصول هو الطريقة التي اوصل بها الجزم اشكاله الحرفية مع بعضها افقيا. اذ استخدم الجزم تطويل افقي مفتوح لليسار في كل حرف وهو نفسه الاسلوب المتبع في المسند المتصل. اسلوب ايصال الحروف الفريد هذا هو ما ميز الجزم عن بقية الابجديات المحيطة به. ورغم انه ليس من المستحيل جدليا تصور امكانية تحول الاشكال النبطية جذريا خلال القرن الرابع الميلادي لتصبح اشكالا افقية، الا ان ذلك نفسه يمكن ان يقال عن اشكال المسند.
مراجعة نقدية لادلة النقوش النبطية
كما ذكرنا سابقا، لقد ارتكزت نظرية تحول النبطية الى الجزم كليا على بضعة نقوش عربية بحروف نبطية. احدها كان نقش رقوش حيث يعتقد العديد انه يمثل بداية اشكال الجزم العربية. ولكن وجود بضعة كلمات شبيهة بالعربية في هذا النقش تبدو صدفة محضة. فكلمة “قبرو” تكررت ثلاث مرات في النقش الا انها كانت شبيهة بالعربية مرة واحدة فقط. يعتقد المؤلف ان نقش رقوش نقش تقليدي للنبطية المتأخرة او بافضل حال قد يكون نقش نبطي منجز على يد شخص ذو معرفة بابجدية الجزم. وهذا قد يتفق مع رأي عدد من الخبراء ممن اعتبر هذا النقش “لهجة حدودية”.
اقدم نقش مكتشف للعربية بالحروف النبطية من مدائن صالح شمال الحجاز ويعود للعام 267 ميلادي. لاحظ كتابة المسند العمودية لليمين. لونت كلمة “قبرو” بالاخضر للتوضيح.28 |
كما انه ليس من الغريب جدا ظهور التنقيط في نقش رقوش. اذ وكما ذكرنا سابقا، لم يكن التنقيط ابتداعا اسلاميا. فمخطوطات الافيستا والبهلوي الفارسية ربما استخدمت النقاط لفترة طويلة سابقة. احدى ابجديات تدمر كانت قد استخدمت التنقيط ايضا لاحتكاكها ببلاد ما بين النهرين ابان الاحتلال الساساني على الاغلب. 24 من المرجح ان النبطية المتأخرة كانت قد اقتبست التنقيط من تدمر. وحقيقة تسمية العرب لعملية اضافة النقاط “تعجيم” او “اعجام” خلال القرن السابع الميلادي، هو برهان واضح على ماذهبنا اليه اعلاه. فكلا الكلمتين تعني جعل النص ذو مسحة اعجمية.
اما النقش الآخر والذي اعتبره العلماء دليلا على تحول النبطية للجزم فقد كان نقش النمارة. وقد عثرعلى هذا النقش قبل نقش رقوش وتم ارجاعه لبضعة عقود لاحقة. واظهرت القراءة الأولى للحجر الاصلي، المحفوظ اليوم في متحف اللوفر بباريس، اشكالا حرفية متصلة وقريبة بعض الشيء من العربية. فقد قرأت الكلمه الثانية من السطر الثاني على انها “الاسدين”، متضمنتاً الحرف المركب “لام- أليف”، رغم تلف الحجر الواضح في موقع تلك الكلمة. في عدة مناطق اخرى على الحجر يمكن ملاحظة اشكال شبيهه بالعربية للباء والهاء النهائيتين، وشكلين لحرف الكاف النبطية، بل وحتى اشارة لتاء مربوطة مستقبلية.
بعد اعادته لقراءة نص النمارة في ثمانينيات القرن الماضي، اتفق بلمي عموما مع قراءة دوساد له في بداية ذلك القرن. الا انه وبدون تفحص الحجر عن قرب يصعب الحكم على بعض اشكاله عبر الصور. فعلى سبيال المثال، عرض بلمي ثلاثة صور لحجر النمارة اظهرت اختلافا كبيرا للاشكال الحرفية للمنطقة التالفة جزئيا في السطر الثاني المتضمنة على اللام – أليف في كلمة “الأسدين”. حيث ان توضيح الاشكال الحرفية صوريا في جزء من الحجر سبب تشويهها في الاجزاء الاخرى. وكما كتب بلمي نفسه “الصور يمكن ان تكون خادعة” 6.
وحتى لم افترضنا ان الاشكال الحرفية في نقش النمارة اشكالا تأريخية دقيقة، تبقى هناك مشكلة تفسيرها. فالقراءات الحالية ليست موضوعية تماما. اذ انها تفترض مسبقا ان هذا النقش يمثل “اشكال متطورة لحروف الابجدية النبطية، في نهايات طريقها الى العربية”. ولكن من الممكن تشخيص عدد من التناقضات الهامة في القراءات الحالية لهذا النقش.
حيث اعتقد المختصين ان الكلمات الاولى تعني “هذا نصب مدفن امرؤ القيس”، بما يعطي الانطباع ان حجر النمارة كان موضوعا على قبره، بينما كانت قراءتهم العربية للكلمات ذاتها “تي نفس مرألقيس”. بوضوح، القراءتين متناقضتين. اذ ان “تي” لا تعني “هذا” و”نفس” لا تعني “قبر”، بالعربية. وبما ان نقش رقوش كان قد استخدم كلمة “قبرو” تحديدا وبكثرة قبل ذلك، لماذا لم يستخدمها اذن نقش النمارة بعد بضعة عقود؟
ورغم ان غالبية كلمات النقش كانت عربية مفهومة عموما، ظهرت في النقش كلمة غريبة وهي “عكدي”. وقد اختلف في تفسيرها المختصين كليا، الا انهم افترضوا بشكل غير مقنع انها قد تكون كلمة قواعدية تعني “ابدا” او “بعد ذلك” او “فيما بعد”.6 وقدظهرت هذه الكلمة في جملتين، الاولى “هرّبَ محجو عكدي وجاء ..الخ”، والثانية “عكدي هَلك سنة …الخ”. يعتقد المؤلف ان عكدي هو اسم لشخص، وان حجر النمارة هو اما شاهد قبر او نصب تذكاري لاحد رفاق امرؤ القيس، او ربما ملك لاحق، واسمه عكدي. اذ بدأ النص بجملة اولية تكريما لامرؤ القيس ثم عدد خدمات عكدي وانجازاته الحربية واختتم ذلك بتأريخ وفاته.
علاوة على ذلك، فان قراءة تاريخ نقش النمارة، شأنه في ذلك شأن نقشي حران وأسيس، استندت الى قراءة كلمتين بعد الكلمة “سنت” على انها ارقام نبطية. وتم قراءة الجزء الاخير من الكلمة الثانية، المتشابة في النقوش الثلاثة على انه الرقم 23. ولكن قراءة الرمز الاخير كرقم نبطي سيعني ان رقم الآحاد كان متشابها في سنوات النقوش الثلاث، وهذه مصادفة غير واقعية. كما اننا وبعد البحث في اشكال الارقام النبطية لم نعثر على شكل رقمي مشابه قطعيا لهذا الرمز.10 كما ذكرنا سابقا ربما اشار هذا الرمز الاخير لحدث او عام وليس لرقم.
ان قراءة تأريخ نقش النمارة امر في غاية الاهمية، فنقش سكاكة كان هو الاخر قد تحدث بالتحديد عن احد ابناء او عبيد امرؤ القيس. وقد تم تقدير تأريخ ذلك النقش حوالي تاريخ نقش النمارة او بضعة عقود بعده في اكثر تقدير. ولكن وبعد تفحص الاشكال الحرفية وطريقة كتابة “امرؤ القيس” في كلا النقشين، وبينهما بضعة عقود فقط، يبدو جليا ان الكتابة النبطية لا يمكن ان تكون قد تطورت الى كتابة الجزم وانما عاصرتها وتفاعلت معها.
الخلاصة
كانت ابجدية الجزم العربية في قرونها الاولى، على الاغلب، نسخة محلية لابجدية المسند الموصولة الحروف المستخدمة بين القبائل العربية الشمالية. فمن الواضح ان المسند لم يبقى ثابتا عبر القرون الطويلة، بينما تطورت اشكال ابجدياته الشقيقة، الارامية او الفينيقية، الى مجموعة متنوعة من الابجديات المشتقة. نظرا لطبيعتها البدوية كانت القبائل العربية الشمالية قد تعرضت للعديد من الابجديات المجاورة وتأثرت بها. ورغم ان اشكال حروف الجزم كانت مستقرة نسبيا قبل ظهور الاسلام، الا انه ومن الواضح ان دورة تطورها كانت دورة طويلة لانها لم تكن مستخدمة رسميا في اروقة دولة مركزية.
تجاذبت عربية الجزم البدائية لفترة طويلة مع ابجدية المسند والابجديات الآرامية الاكثر تطورا المنتشرة حولها. اذ ربما اقتبس الجزم بعض الاشكال النبطية. الا انه من الصعب ان نزعم انها ابجدية نبطية متطورة استنادا على بضعة اشكال حرفية في نقوش نبطية تشبه عن بعد الاشكال العربية، خاصة وان جذور الآرامية النبطية والمسند متماثلة، وخاصة وان عملية تحديد الاشكال الحرفية للنقوش القديمة ليست عملية علمية دقيقة ونهائية.
ليس واضحا بعد من هي القبائل العربية الشمالية التي استخدمت الجزم اولا. الا ان ذلك لا يؤثرعلى طبيعة الدراسة هذه. اذ انه ورغم المساحة الجغرافية الشاسعة الفاصلة بينها، كانت القبائل العربية قريبة جدا من بعضها، ثقافيا. مما لاشك فيه، كان لظهور مكة قبل الاسلام كمركز بارز للتجارة والعبادة في الجزيرة العربية دورا رئيسيا في انتشار الجزم حتى انه اصبح معروفا بالخط الحجازي.
ربما كان عرب الحيرة والانبار هم من ابتدع ابجدية الجزم. او ربما كانوا هم من طورها وحسنها عبر ادخال منحنيات وايقاعات شكلية سلسة لاحتكاكهم بابجديات بلاد مابين النهرين ابان القرون الساسانية. بيد ان الاصول المباشرة للعربية الحديثة كانت في المسند. وهي لم تتطور الى اشكالها النهائية المستقرة حتى ظهور الخط الكوفي وبعد ان اصبحت الابجدية الرسمية والدينية للدولة الاسلامية.
كانت ابجدية الجزم العربية القديمة نظاما كتابيا ذو اشكال حرفية مرنة وقوية. ولانها نتاج بيئة مختلطة ومتضمنة لاشكالا حرفية قريبة للمسند والآرامية في آن واحد، تطورت ابجدية الجزم سريعا بعد الاسلام لتصبح قوة هامة في توحيد اوصال الجزيرة العربية وشمال افريقيا وبلاد فارس. وبعد قرنين من الاسلام، وهي فترة وجيزة نسبيا، اصبحت الكتابة العربية كتابة عالمية ذات تقاليد خطية غنية. اذ تأثرت العديد من الابجديات القديمة في المنطقة، والتي بقيت مستعملة حتى يومنا هذا، كثيرا بنجاحاتها. ومع انتشار الاسلام، انتشرت الكتابة العربية بين الامم البعيدة ايضا. و كانت هذه ظاهرة طبيعية ومتوقعة، اذ اصبحت الابجدية العربية ولقرون طويلة ابجدية العلم والمعرفة الاولى في العالم.
مصادر البحث
- Abuhaiba, Ibrahim S. I. A Discrete Arabic Script for Better Automatic Document Understanding. The Arabian Journal of Science and Engineering. 2003. 28:1B.
- Ancient Hebrew Research Center. Museum of Hebrew Script. Alphabet. http://www.ancient-hebrew.org
- Ancient Scripts. Pahlavi. http://www.ancientscripts.com/pahlavi.html
- Arab Calligraphy: Portrait of Magnificence, Majesty, and Grace. Areen: Arabcin’s Monthly Magazine. 2001. 25. http://www.arabcin.net/areen/areen_english/25/cover1.htm
- Avesta. Zoroastrian Archives.http://www.avesta.org
- Bellamy, James A. The new Reading of al-Namarah Inscription. Journal of the American Oriental Society. 1985.105: PP 31-48.
- Bellamy, James A. Two Pre-Islamic Arabic Inscriptions Revisited. Journal of the American Oriental Society. 1988. 108:3: PP 369-378.
- The Catholic Encyclopedia. Petra. http://www.newadvent.org/cathen/11777b.htm
- Farrokh, Rokn od Din Homayun. History of Book and the Imperial Libraries of Iran. 1963. Ministry of Art and Culture. Tehran
- Forvm Ancient Coins. Nabataean Numerals and Number Words. http://www.forumancientcoins.com
- Hamidullah M. Some Arabic inscriptions of Madinah of the early years of Hijrah. Islamic Culture. 1939. XIII: PP 427-439.
- Healey, John F. and Drijvers, Han J.W. The Old Syriac Inscriptions of Edessa and Osrhoene. 1999. Brill.
- Healey, John F. The Nabataean Tomb Inscriptions of Mada’in Salih. Journal of Semitic Studies. 1993. Supplement 1. Oxford University Press.
- Hussein, Mohamed A. Origins of the Book: From Papyrus to Codex. 1970. New York graphics Society Ltd. Greenwich, Connecticut.
- Islamic Civilization. http://www.cyberistan.org/islamic/letters.html
- Khan, Gabriel Mandel. Arabic Script: Styles, Variants, and, Calligraphic Adaptations. 2001. Abbeville Press Publishers. New York.
- Khan, Majeed. The Origin and Evolution of Ancient Arabian Scripts. 1993. Ministry of Education and Department of Antiquities and Museums. Riyadh.
- مادون، محمد علي. خط الجزم ابن الخط المسند. 1989. دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر. دمشق. الطبعة الاولى.
- McGuire, Gibson. Nippur. The Oriental Institute of the University of Chicago. 2001-2002 Annual Report. http://oi.uchicago.edu/research/pubs/ar/01-02/nippur.html
- Miles, G. C. Early Islamic Inscriptions Near Ta’if in the Hijaz. Journal of Near Eastern Studies. 1948. VII: PP 236-242.
- al-Muaikel, Khalil. Pre-Islamic Arabic Inscriptions from Sakaka, Saudi Arabia. Studies on Arabia in honor of Professor G. Rex Smith. Journal of Semitic Studies. Oxford University Press. 2002. Supplement 14: PP 157-169.
- al-Nadim, Ibn. The Fihrest of al-Nadim. Bayard Dodge, editor and translator. 1970. Columbia University Press.
- OmniGlot: Writing Systems and Languages of the World. Avestan. http://www.omniglot.com
- Rostovtzeff, M. I. The Caravan Gods of Palmyra. The Journal of Roman Studies. Part 1: Papers Dedicated to Sir George MacDonald. 1932. 22: PP107-116
- Safadi, Y. H. Islamic Calligraphy. 1997. Shambhala Publications, Inc. Boulder.
- al-Saggār, Muḥammad Sa`īd. Abjadiyyat al-Saggar: al-Mashru` wa-al-Miḥnah.1998. Damascus. Dar al-Mada.
- al-Said, Said F.; Weninger, Stefan. Eine Unvollendete Sabäische Urkunde. Arabian Archaeology and Epigraphy. 2004. 15: PP 68-71.
- Saifulla, M. S. M.; Ghuniem, Muhammad; Zaman, Shibli. From Alphonse Mengana to Christoph Luxenberg: Arabic script and the alleged Syriac Origins of the Qur’an. Islamic Awareness. http://www.islamic-awareness.org
- السالم، وارد بدر. مخطوطة تكشف عنها الزمان. جريدة الزمان العربية اليومية. طبعة المملكة المتحدة. 19 حزيران 2007. 10:2725 . الصفحة الاخيرة.
- Segal, J. B. Four Syriac Inscriptions. Bulletin of the school of Oriental and African Study. University of London. Fiftieth Anniversary Volume.1967. 30:2: PP 293-304.
- Segal, J. B. Some Syriac Inscriptions fron the 2nd – 3rd Century A. D. Bulletin of the school of Oriental and African Study. University of London. 1954. 16:1 PP 13-36
- Sheridan, Susan Guise, Ph.D. University of Notre Dame. Department of Anthropology. Pictures from a trip to Petra.
http://www.nd.edu/%7Esheridan/Jordan%202000/Jordan%202000.html
- Smithsonian. National Museum of Natural History. Written in Stone: Inscriptions from the National Museum of Saudi Arabia. http://www.mnh.si.edu/epigraphy/
- Starcky, Jean. The Nabataean: A Historical Sketch. The Biblical Archaeologist. December 1955. 18: 4.
- al-Theeb, S.A. Two New Dated Nabataean Inscriptions from al-Jawf. Journal of Semitic Studies. 1994. XXX|X: PP 33-40.
- Wikipedia. The Online Encyclopedia. http://en.wikipedia.org
شكر وتقدير
قام بتحضير الاشكال التوضيحية في هذه المقالة، حسن جميل، الحاصل على شهادة البكالوريوس حديثا من كلية باروك، جامعة مدينة نيويورك.
نبذة عن المؤلف
ولد المؤلف في مدينة ساكرمنتو، عاصمة ولاية كالفورنيا عام 1958، ونشأ في العراق. درس علوم الاقتصاد في جامعة بغداد لعامين قبل استقراره في نيويورك منذ العام 1979 حيث حصل لاحقا على شهادة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية من جامعة بوليتكنيك وشهادة الماجستير في علم المكتبات والمعلومات من مؤسسة برات. وهو مصمم طبوغرافي ومختص في مجال التكنولوجية المكتبية وله عدد من المقالات في مجال الطوبغرافيا العربية. وقد عمل منذ العام 1992 في تصميم الابناط العربية وخاصة الابناط الغيرالتقليدية حيث قدم عام 1998 طراز النمط الحرفي او الخط المتماثل. لمزيد من المعلومات عن المؤلف وتصاميمه يمكن زيارة موقعه على الشبكة العالمية: arabetics.com